المشكلة الديمغرافية في سوريا ونظرية مالتوس …بقلم :عبد الجليل الحسيني

في خطاب القسم سنة 2007 ذكر السيد الرئيس بشار الأسد أن الجزء الأكبر من النمو الاقتصادي (والذي بلغت نسبته 5.1 %) قد تم ابتلاعه من قبل الزيادة السكانية الهائلة، والتي هي مشكلة اجتماعية لا تستطيع الدولة أن تفعل إزاءها أي شيء.

 

لقد تناول الكثيرون خطاب القسم بالتحليل وبالأخص منه ما يتعلق بالدعم، ولكن يبدو أن أحداً لم يلتفت إلى ذلك القسم الذي يتناول مشكلة الزيادة السكانية الهائلة التي عانت وستعاني منها سوريا على المدى البعيد، فما هي أسباب هذه المشكلة؟ وما هي ظواهرها؟ وكيف يتم معالجتها؟

لقد دأبت الحكومات السورية منذ الاستقلال على تقديم الدعم للمواطن السوري وبشتى الأشكال، من صحة وتعليم وخبز ومحروقات…. وهذا الأمر كان له بعض المحاسن من رفع المستوى الثقافي والصحي بشكل عام، إلا أنه أدى في الوقت نفسه إلى انفجار سكاني هائل، عجزت الدولة عن استيعابه وحصر أخطاره، والأسوأ من ذلك أن الزيادة السكانية في غالبيتها الساحقة قد حصلت وتحصل بين الطبقات الأقل وعياً وثقافةً، الأمر الذي يعني عدم استفادتها من دعم التعليم (والذي كان سبباً في التكاثر العشوائي) أو من برامج التثقيف السكاني، وهذا ما يفسر ارتفاع نسبة الأمية في المجتمع السوري عموماً (30 %)، وهي إحصاءات تفتقر الدقة خاصةً وأنه تعتبر من حصل على الشهادة الابتدائية غير أمي، وهو أمر غير دقيق، إذ أن كثيراً منهم لا يزال على أميته، إن هذه الطبقات الأقل وعياً، والتي تعيش في أحزمة البؤس حول المدن الكبرى، وفي الأرياف حول المدن، تعتبر من أهم أسباب الانهيار الاجتماعي على ستشهده سوريا على المدى المتوسط والبعيد.

لقد أدت سياسة الدعم التي تنتهجها الدولة وقلة وعي وثقافة الطبقات الفقيرة، إلى زيادة عدد الفقراء ولم تؤد إلى رفع مستواهم. نتيجة انخداعهم بأوهام الحياة الرخيصة،  وهو ما يناقض أهداف الحكومة وتطلعاتها.

تسود  في المجتمع ثقافة شعبية  تقول إن الزيادة السكانية (بحد ذاتها) هي أمر مستحب ومطلوب شرعاً، بدليل حديث: «تناكحوا تناسلوا فإني مباهٍ بكم الأمم»، وهو حديث ليس بصحيح، أو بقوله تعالى: «المال والبنون زينة الحياة الدنيا» وهذا استدلال غير صحيح، إذ أن القرآن ذكر هذين الأمرين على سبيل الذم وليس المدح، بدليل أنه يصف الحياة الدنيا في مواضع كثيرة بأنها لعب ولهو. كما أن تكملة الآية دليل على ذلك إذ يقول: «المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً»، أما الصواب فهو أن الدين يفضل القلة الصالحة على الكثرة الفاسدة، إذ يقول الله عز وجل: « وقليل من عبادي الشكور» ، ويقول أيضاً: « إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليلٌ ما هم ».

ويمكن تبين  ظواهر المشكلة السكانية في سوريا من خلال ملاحظة الخلل الاجتماعي والاقتصادي الذي بدأ يتكشف جلياً في المجتمع السوري، فعلى الصعيد الاجتماعي ازدادت نسبة الجريمة بشكل رهيب، من قتل واختطاف واغتصاب واغتصاب أطفال (15 حالة اغتصاب لأطفال في شهر واحد في مدينة حلب فقط، حسب أحد المواقع الالكترونية)، وهو ما سيؤدي إلى زيادة الضغط على الموارد الاقتصادية لمكافحة هذه الظاهرة ( من بناء سجون وإصلاحيات ودعم لأجهزة الشرطة وغيره). وأيضاً سبب ذلك تفكك الأسرة وارتفاع نسب الطلاق، وما يعنيه ذلك من حرمان الأطفال من التربية الأخلاقية اللازمة.

أما على الصعيد الاقتصادي فقد أدت الزيادة السكانية الضخمة إلى ضعف الموارد البشرية بشكل عام، وهذا هو السر في ضعف الاقتصاد السوري، ففي كل مجال من المجالات تجد الكثير من المختصين، ولكن تعوزهم الكفاءة والنوعية quality  نتيجة لضعف المؤسسات الاقتصادية والتعليمية بشكل عام. إن السر في أي تقدم اقتصادي هو هو في تحسين وتطوير الموارد البشرية، أما الأعداد الكبيرة من السكان التي تفتقد المهارة والخبرة والحس الأخلاقي إنما هي كارثة ووبال على الاقتصاد وعلى المجتمع. ففي المجتمع السوري هناك ثلاثمئة ألف وافد جديد إلى سوق العمل سنوياً، ولا أظن أن الاقتصاد السوري قادر على خلق ثلاثمئة ألف فرصة عمل في السنة.

لقد تنبأ مالتوس بمستقبل رهيب للبشرية في ظل التزايد السكاني الهائل، ويمكن تبينه من خلال الدول التي تعاني من هذه المشكلة الخطيرة (مثل: اليمن، مصر، الجزائر) ويظهر من خلال: تفشي الأوبئة والأمراض الخطيرة، المجاعات، الحروب الأهلية، كل ذلك في سبيل الاستحواذ على الموارد المتناقصة (كما هي في اليمن والصومال). لقد أثبتت سوريا نظرية مالتوس عن الأعداد البشرية المتزايدة، والموارد الطبيعية المتناقصة، ففي الوقت الذي تحتاج سوريا إلى 4 مليون طن من القمح لإطعام ما يقارب 22 مليوناً من السكان، لم تعد تنتج إلا ما يقارب 3.1 مليون (لعام 2009) بل وأقل من ذلك في الأعوام السابقة. إن نسبة التزايد السكاني والبالغة 3.8 % سنوياً تعني أن عدد السكان سيتضاعف خلال 20 سنة، فهل تضاعفت الموارد الاقتصادية خلال 20 سنة، كل المؤشرات تقول أن الإنتاج النفطي في تضاءل، والمساحات الصالحة للزراعة آخذة بالانحسار، وكذلك كميات المنتجات الزراعية، والصناعيين يتحول إلى تجار في ظل منافسة البضائع الأجنبية.

وكما أن حدوث هذه المشكلة وتفاقمها كان ممتداً على سنوات عديدة، فكذلك حلها سيكون ممتداً على سنوات عديدة وبما لن تظهر آثاره إلا بعد أجيال، ويتمثل الحل في سلسلة من القرارات الإستراتيجية  البعيدة المدى، والتي تتمثل في إعادة هيكلة الاقتصاد السوري على أساس عدم الاعتماد على الدولة (أو الريع) ورفع الدعم عن السلع الرئيسية بشكل تدريجي، وذلك في:

–        مجال التعليم: إن فكرة مجانية التعليم إنما هي عبارة عن وهم، فالدولة لتوفير التعليم تحتاج إلى موارد ضخمة تحصل عليها من خلال فرض الضرائب على قطاعات الاقتصاد، الأمر الذي سيضيف عبئاً على السلع بارتفاع كلفتها، والتي سيدفعها المستهلك النهائي للسلعة، كما أن ارتفاع أسعار السلع سيؤدي إلى ضعف المنافسة أمام السلع المستوردة، وبالتالي الإفلاس ، والمزيد من الضغط على الموارد الاقتصادية المتناقصة.  إن  سياسة توفير التعليم مجاناً كان لها من المساوئ مثل ما كان من المحاسن، فقد أدت إلى استهتار من قبل بعض  الأهالي والتلاميذ بالتعليم ومؤسساته. وعدم تقديرهم قيمة النفقات التي تتحملها الدولة لتوفير التعليم المجاني، أضف إلى ذلك أن التعليم الحكومي يمتاز بالضعف في كوادره ومؤسساته (كما ذكرنا سابقاً: الكم على حساب النوع). وليس هنالك في الفقه الإسلامي ما ينص على أن نفقة التعليم تكون على عاتق الدولة، بل لقد نص الفقهاء على أن نفقة تعليم الولد تكون في ماله إن كان له مال، وإلا فعلى أبيه، أما ازدهار العلوم الإسلامية في العصور الوسطى فإنه يعود إلى نظام الوقف الذي يربط المؤسسات التعليمية بقطاعات الاقتصاد الحقيقي (الصناعة، الزراعة)  وهو ما تفعله الشركات الكبرى في الغرب من خلال دعم الأبحاث العلمية والتقنية.

–        المحروقات: ويأتي في مقدمتها المازوت، ويصح فيه ما قلناه سابقاً عن التعليم،  فإذا كان اللتر من زيت الديزل يكلف الدولة 27 ليرة وتقوم ببيعه ب 9 ليرات، فهذا يعني أن الدولة ستقوم بفرض الرسوم والضرائب لتعويض فارق الخسارة، أضف إلى ذلك نشاط تهريب المازوت إلى الدول المجاورة، ولقد  صرحت الحكومة بأنها عاجزة عن مكافحته.

–        الخبز: تشتري الدولة الكيلو الواحد من القمح ب 20 ليرة سوية وتبيع الطحين ب 8 ليرات سورية، فلا يتوهمن متوهمٌ أن هذا هو السعر الحقيقي للخبز، أو أنه من واجبات الدولة أن تجعله كذلك، إذ أن الأمر يخضع لأسعار السوق، وأي تلاعب بها إنما هو تلاعب بالطبيعة، وهذا له عواقب كارثية.

فعلى الدولة أن تضع برنامجاً تدريجياً لرفع الدعم عن الأمور الثلاثة المذكورة أعلاه، إن هذه البرنامج سوف تكون له عواقب صعبة على المدى القريب، لكن محاسنه ستظهر على المدى المتوسط والبعيد. فالأسعار يجب أن تترك على حقيقتها، لأن الطبيعة إذا لم يعبث بها تدخل الإنسان، فإنها قادرة على ضبط الزيادة السكانية بحسب الطاقات والموارد المتاحة.

 

إن الملاحظة الاستشرافية لمستقبل سوريا في الثلاثين سنة القادمة (إذا ظلت سياسة الدعم على حالها) تقول بأن البلاد سائرة وبسرعة نحو مستقبل مشابه لحالة مصر. (من حيث ارتفاع أعداد الفقراء، سوء التعليم، ضعف الموارد البشرية، مساحات هائلة من السكن العشوائي)

إن وظيفة الدولة الأبرز هي إدارة عملية البناء الاقتصادي، وتوفير الازدهار والتقدم للمجتمع على المدى البعيد، أما أن تتحول الدولة إلى جمعية خيرية تأخذ الأموال من الأغنياء وتمنحها للفقراء على طريقة روبن هود، فهذا يؤذن بالانهيار الاقتصادي والاجتماعي كما تنبأ بذلك ابن خلدون. إذ ذكر أن تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية يؤدي إلى فساد العمران.

على الحكومة أن تتحمل مسؤوليتها في الدور القيادي والطليعي في المجتمع، الذي يقود المجتمع نحو الرفاه الاجتماعي والاقتصادي، لا أن تكون مقادةً من قبل الأكثرية والغوغاء.

إن كثيراً من البلدان الغربية تعاني من الزيادة السكانية الضعيفة أو من تناقص عدد السكان في بعض البلدان الغربية، فهل يعود ذلك إلى أنهم يكرهون الأطفال، بالطبع لا، ولكن لأن الحكومات عندهم لا تقوم بخداع المواطن بأوهام الحياة الرخيصة، وكل فرد ملزم أخلاقياً بتأمين مستقبل أفضل لمن يعول،  لا أن  يرميهم في غيابت الحياة، أو للتباهي بين أفراد الأسرة والعشيرة.

أضف تعليق